Saturday, 22 January 2011

للديكتاوريين أوجه عديدة و متشابهه



ليس من سبيل الصدفة والمصادفة ذلك التشابه, الشبه توأمى لحياة ونهاية كثير من ديكتاتورى العالم
فلو  قارنا – على سبيل المثال – بين كل من شاوشيسكو (رومانيا ) وزين العابدين بن على (تونس) وكذلك صدام حسين ( العراق )
نجد أن شاوشيسكو كان فى الأصل (صُراماطى) عامل بسيط فقير فى أحد قرى رومانيا يكسب قوت يومه من إصلاح أحذية الناس , وكذلك زوجته إلينا كانت فلاحة لم تنل حظها من التعليم أيضاً, لكنهما وصلا لسدة الحكم فى رومانيا من خلال عضوية الحزب الشيوعى الذى كان يميل للعمال والفلاحين .
 وبعد أن وصل شاوشيسكو للحكم وأصبحت زوجته إلينا السيدة الأولى لرومانيا , دعمت مركزها السياسى ووصل الأمر بها أن أصبح  تسيير أمور رومانيا من خلالها وليس من خلال سيادة الرئيس أو حكومته ,أصبحت صورة  السيدة الأولى لرومانيا جانباً الى جنب لصورة السيد الرئيس فى كل مكان – فى الإحتفالات الشعبية  والرسمية والمكاتب و المؤسسات الحكومية والمدارس- لم يقتصر الأمر عند ذلك الحد لكنه وصل إلى أنه كان لإلينا شاوسيسكو رجالها الداعمون لسلطانها داخل الأجهزة الحكومية  والأمنية وكانت كلمتهم وصوتهم هو الأعلى , أعلى من صوت وزراء شاوسيسكو . كانت تعين و تفصل وترفت وتأمر بالقتل والإعتقال . كانت كلمتها أقوى من كلمة شاوسيسكو نفسه – الرئيس –  منحت إلينا شاوشيسكو نفسها درحة الدكتوراة فى الكيمياء بالرغم من أنها لم تحصل على شهادة البكالوريا  طيلة حياة عمرها , بالرغم من أنها لم تدرس الكيمياء أو غيرها لا فى فصول التعليم  التى درستها , لإنها لم تدرس مرحلة البكالوريا ( الثانوية العامة ) ولا فى الجامعة  التى منحتها درحة الدكتوراة تلك  , لانها لم تدرس فى الجامعة .
أسأت إلينا إستخدام السلطة وسحبت السجادة من تحت أقدام زوجها - السيد الرئيس - فأصبح مغيباً ولا يدرى شيئاً عن أمور شعبه , كان العنوان الأساسى والرئيسى للتقارير الأمنية التى تصله هو ( كلـــــه تمـــــام ياريـــــس ) , بنوا جداراً فولازيا  معتماً وغير شفاف بينه وبين الشعب , أوهموه أنه المعلم والقائد والزعيم  والملهم وكبير العائلة والأوحد والأعلم  . لكن كما قلت أوهموه لانه على الصعيد الشعبى , كان العكس تماماً , كانت براكين الغضب تغلى فى نفوس أفراد الشعب نتيجة الخوف من الوشاية بالموت او بالإعتقالات , كانت الإعتقالات دون أسباب وأن كانوا يدعون أنها لأسباب أمنية . والأسباب الأمنية هذه ربما تكون لإستماعه لإذاعة أجنيية أو لأنه تكلم فى السياسة أو ربما لأنه عبر عن  رأيه فى السلطة الحاكمة أو فى سياسة البلد , وبالطبع لا أحد يعلم مصير المعتلقين وغالباً ما كان ينتهى بهم الآمر بتقرير أمنى بأن السيد فلان قد توفى فى المعتقل ولكن حقيقة الأمر أن السيد فلان هذا قد تمت تصفيته من قبل الأجهزة الأمنية – داخل المعتقل - , كان الجوع والفقر والمرض والكبت السياسى والديمقراطى. كل ذلك وأكثر نتيجة للإسخدام السىء للسلطة من قبل السيدة إلينا زوجة السيد الرئيس شاوسيسكو ,التى إستطاعت أن تؤسس لنفسها دولة داخل الدولة . وبالرغم من أن رومانيا  إستطاعت تسديد كل ديونها الخارجية لتصل جملة الديون إلى  الرقم صفر فى عهد شاوشيسكو , بالرغم من أن 90% من المبانى والعمارات الحديثة فى رومانيا الأن تمت فى عهد شاوشيسكو , بالرغم أن رومانيا شهدت نهضة صناعية وزراعية لحد ما – ليست موجودة الأن – فى عهد شاوشيسكو . لكن كل هذا لم يغفر له .. فالشعب كان محروماً من الحرية , فلم يكن مسموحاً بأى حال من الأحوال الإستماع لإذاعات أحنبية , غير راديو رومانيا وتليفزيون رومانيا , كانت الأجهزة الأمنية وسيلة إرهاب للشعب ولم تكن وسيلة أمنية يوما ما , ربما أمنية فقط لحماية السلطة. كان التجمع لأكثر من خمسة أفراد محذوراً  على الجميع  فى أى مكان وفى أى مناسبة , حتى  أثناء سيرهم فى الشارع ,أو خروجهم  للتنزه . ونظراً لحالة الكبت والخوف  والفقر والإفتقاد للحرية والشعور بالغربة داخل الوطن , وهى كلها نتائج لسياسة السلطة والتى كانت متمثلة فى السيدة إلينا شاوسيسكو , إنفجر البركان الخامد لسنوات , إنطلقت  الثورة الشعبية والتى أدت إلى إعدم شاوشيسكو وزوجته علناً , رمياً بالرصاص .

هذا هو وجه لديكتاتور فى شمال القارة الأوربية . تعالوا لنرى وجه أخر لديكتاتور أخر لكنه من  شمال أفريقيا ألا وهو زين العابدين بن على ... فالرغم من التباعد الجغرافى والثقافى بين رومانيا وتونس , فرومانيا فى قارة أوروبا بينما تونس فى قارة أفريقيا . رومانيا بلد مسيحى الديانة  بينما تونس إسلامى الديانة , رومانيا تتحدث اللغة الرومانية بينما تونس تتحدث اللغة العربية , رومانيا تنتمى للثقافة الأوربية بينما تونس تنتمى للثقافة العربية , ومع ذلك فوجه التشابه بين حياة الديكتاتور الرومانى والديكتاتور التونسى  كانت كبيرة الشبه .

ففى تونس , نجد أن السيدة ليلى الطرابلسى - سيدة تونس الأولى- الزوجة الثانية للرئيس زين العابدين بن علي ، إرتبط إسمها بالعديد من قضايا الفساد و التدخلات في شئون الدولة، مما دفع البعض للإعتقاد بانها هي وعائلتها من يحكم تونس وليس الرئيس وخاصة بعد مرضه في الفترة الأخيرة.
ولدت ليلى عام 1957 من عائلة بسيطة، كان والدها بائعا للخضر والفواكه الطازجة، وبعد حصولها على الشهادة الابتدائية، إلتحقت بمدرسة الحلاقة، وأصبحت كوافيرة , تزوجها زين العابدين بن علي، بعد طلاقه من زوجته الأولى نعيمة على أمل إنجاب الذكور  - كما أُشاع وقتها - ، وبعد زواجها من الرئيس إستطاعت أسرتها من بسط نفوذها، إذ استحوذ أخوها الأكبر بلحسن، على شركة الطيران ويتهمه تونسيون بنهب قطاعات إقتصادية واسعة .
كما إستحوذ الكثيرون من أقارب ليلى الطرابلسي على قطاعات عديدة من الاقتصاد التونسي. وضربت شبكة أقربائها والمقربين منها خيوطاً عنكبوتية حول كل القطاعات: الهاتف الخلوي، البنوك، التعليم
الخاص .
بسطت ليلى وأسرتها نفوذهم داخل قصر قرطاج - قصر الحكم -  حيث  كانت  لها اليد العليا فى البلاد وفى تعيين الوزراء وأصحاب المراكز السلطوية فى البلاد  , تحكمت فى  كل شىء وهناك مصادر مقربة منها أكدت بأنه لا يستطيع أحد فى تونس أو قادم من خارج تونس قضاء مصلحة أو إقامة مشروع أو التمتع يإمتيازات داخل تونس مادم ليس على علاقة وفاق مع عائلة الطرابلسى – عائلة سيدة تونس الأولى –  وهناك مصادر أخرى أكدت بأن ليلى  الطرابلسى هى من أمر بسحب الجنسية التونسية من السيدة سها عرفات وسحبت منها أيضاً القصر الذى كانت تعيش فيه , كذلك مشروع المدارس والذى دفعت فيه سها عرفات قرابة  ال 2,5 مليون دولار  وطردتها من تونس أثر خلافات شخصية , دافعها الغيرة .حاولت ليلى وإخوانها جاهدين على فرض العزلة على الرئيس زين العابدين بن على ونجحوا فى ذلك , أغـَّروا به من خلال تقاريرهم الأمنيه وأوهموه بانه ( كـلــه تمـــام ياريــــس )
فى ظل ذلك الجو الديكتاتورى من نهب لثروات البلد ورقابة على الممارسات اليومية للأفراد عبر البريد والإتصالات وغلق  بعض مواقع الإنترنت ورقابة الباقى منها , فى ظل المعاناة للحصول على لقمة العيش وجو الخوف والرهبه وبطش الأمن بالآفراد , فى ظل غياب الحريات والممارسات الدينية , عاش الشعب التونسى 23 عاماً من المعاناه  والذل والظلم , ويبدو أن سيادة الرئيس زين العابدين ما كان يدرى بذلك , ما كان يدرى بمعاناة الشعب -  رعيته - ما كان يدرى بما تفعلة زوجته – سيدة تونس الأولى – وأسرتها والسبب أن السيدة وأسرتها وحاشيتها نجحوا فى عزل الرئبس عن شعبه  بدليل أن زين العابدين قال فى أخر خطبة له وجهها للشعب : لقد خدعونى , لقد كذبوا علىّ , ما كنت على علم بكل حجم الفساد هذا .... ولكنه الأن علم , بعد فوات الأوان !. حتى جاءت العاصفة , الإنتفاضة الشعبية  التى أطاحت بالجميع . وخسر زين العابدين بسبب زوجته التى قيل أنها كانت تعد هى ورجالها للإطاحة بزوجها فى عام 2013 لتتولى هى الحكم من خلال سيناريو  محكم كان معداً له .

بالضبط  نفس ما حدث تقريباً لشاوشيسكو , راح شاوشيسكو بسبب سوء إستخدام زوجته – السيدة الأولى – للسلطة وإفراطها فى إستخدام السلطة لمصلحتها ومصلحة رجالها وحاشيتها على حساب مصلحة الشعب والبلاد. نفس الشىء حدث فى تونس من قبل زوجة زين العابدين – السيدة الأولى-  هذه هى سمات الديكتاوريات أيا كان الإختلاف الجغرافى والثقافى واللغوى فيما بينها . فهى متشابهة فى النشأة وفى الممارسات وأيضاً فى النهايات.

وعلى صعيد أخر وفى مكان أخر , وجه أخر للديكتاتورية , هذه المرة سيكون المثال لديكتاتور من قارة أسيا ألا وهو صدام حسين ديكتاتور العراق السابق.
فبالرغم من حالة النهضة التى شهدها العراق فى عهد صدام حسين وحالة رخاء عاشها الشعب فى فترة ما قبل حروب الخليج إلا أن قطاع عريض من أبناء الشعب كان يفتقد للحرية وكان يعانى من بطش الأجهزة الأمنية أيضاً .
 هذه المرة لم تلعب سيدة العراق الأولى الدور الذى تلعبه دائما زوجات الديكتاتوريين , ولكن من لعب الدور هذه المرة , هما إبناه وبالأخص الإبن  عُدَىّ  الذى غاص فى الملذات والشهوات . الذى إستباح أعراض العراقيات  . كان عدى يتلذذ بتعذيب خصومة وناقديه  , كان لعدى دولته الخاصة داخل الدولة , أما بالنسبة للسيد الرئيس , فكالعادة , كل من حوله , كل رجاله وحاشيته كانوا يُألهوه , أقنعوه أنه الأوحد والأعظم والقائد والزعيم الأغر , الملهم . دفعوا به لحروب كان فى غنى عنها , إستهلكوه . صوروا له أنه معبود الشعب فى نفس الوقت الذى بنوا فيه حاجزاً بينه وبين شعب . كان صدام دائما يراهن على وقوف الشعب بجانبه , حتى فى معاركه . كان يراهن على أن الشعب سيدافع عنه قبل الجيش والأمن , لأنهم أوهموه بأنه ( كلـــه تمـــام ياريـــس ) ويحضرنى هنا ما قاله السيد  عزة إبراهيم  - نائب الرئيس العراقى - عن السيدة ساجدة طلفاح – زوجة الرئيس الراحل صدام حسين وسيدة العراق الأولى - حينما شبهها بزوجة الرسول . يا له من نفاق ورياء ....
وراح صدام حسين ضحية لديكتاتوريتة والإستغلال السىء للسلطة من قبل إبنائه وحاشيته .

ألم تروا  , ياسادة , أن للحريــــــــــــــــة ثمن بهيظ . قد يستطيع الشعب العيش جوعاً أو فقراً لكنه لايستطيع العيش بدون حريـــــــــة . بدون ديمقراطية حقيقية.












Friday, 21 January 2011

الفيل والفئران



كان هناك فيل , أغرته ضخامة حجمه أمام ضآلة حجم الفئران ,شاهد الفيل مجموعة من الفئران قادمون , وقف الفيل ليقطع عليهم الطريق بضخامة حجمه , عندما رأى الفئران صنيع الفيل , تقدم زعيمهم إليه وقال له : يا ضخامة الفيل العظيم , لو سمحت أفسح لنا الطريق , نود ان نعبر الشارع , نود ان نرى  الجهة الأخرى من الشارع , فرد عليه الفيل بغطرسة : لا أرغب فى ذلك , خذ فئرانك واذهب , إلتزموا جحوركم .
فقال له زعيم الفئران : لكننا نريد العبور لنرى  الجهة الأخرى  من الشارع , إنه لأمر هام بالنسبة لنا .
 فرد عليه الفيل بسخرية : ليس هناك أهم منى هنا , إذهب أنت وفئرانك, إذهب.
قال له زعيم الفئران : أجل سنذهب , لكن ليس خوفاً منك  بقدر ماهو إحتراماً لك , لعلك ترجع عن قرارك هذا وتعطينا الفرصة لنمر, لنرى الجانب الأخر من الشارع , نحن لا نريد التصادم معك.
هنا غضب الفيل غضباً شديداً ورفع  خرطومه و صاح قائلاً : كيف بك  يا هذا تتجرأ وتتفوه معى هكذا , من أنت ؟  والله إن لم تذهب وفئرانك , سأدهسكم جميعاً بأقدامى .

فى تلك اللحظة أتى فأر صغير الحجم من بين الصفوف  وقال فى أدب وإستحياء : يا ضخامة الفيل العظيم, إنه زعيمنا , الساهر على راحتنا وحمايتنا , يتكلم بلسان حالنا , يعمل لصالحنا , وعلينا طاعته , وإن ما قاله زعيمنا , لا أرى فيه ما يعكر صفو ضخامتكم . فلماذا أنت بغاضب هكذا ؟.
قال الفيل : ويحك , ويحك , ألا ترى ضخامة جسمى ؟ ألم تستشعر قوتى ؟
قال له الجرز : أتظن ضخامتكم بأن القوة فى ضخامة الجسم ؟          
 قال الفيل : وماذا تظن يا هذا ؟ فبضخامة جسمى وقوتى أفعل الكثير , أفعل ما لا تستطيع أنت وعشيرتك عليه .
فاجابه الفأر : نعم لكننا نستطيع أن نفعل ما لا تسطيع فعله أنت ايضاً.
قال الفيل فى سخرية وإستهزاء : ها ها ها وكيف هذا يا صغير وفصيح عصرك؟
رد عليه الفأر : أتستطيع ضخامتكم عبور هذا الشارع للجهة الأخرى وهذا الحائط  موجود فى وسط الشارع عائقاً ؟
قال الفيل ضاحكا : هذا بالأمر اليسير , فبركلة واحدة بقدمى هذه , أهدم ذلك الحائط وأمر للجهة الأخرى .  
هنا ضحكت جميع الفئران , وقال زعيمهم : لكن بالحائط جحورنا التى نحتمى بها من برد الشتاء وحر الصيف يا ضخامة الفيل العظيــم .
قال الفيل فى كبرياء : الأمر لا يعنينى.
فقال الفأر الصغير : أرأيت ضخامتكم , فحجمك الكبير جعلك تـشعر بأنك الأهم , وأنك قادر على ما لايقدر عليه أحد , وجعلك تسخر وتستهين بمن هو أقل منك حجماً وقوة , فنحن يا ضخامة الفيل العظيم نستطيع العبور للجهة الأخرى دون الحاجة لهدم الحائط , نحن نستطيع حفر أنفاق أسفل الحائط للعبور من خلالها , نحن نستطيع العبور أيضاً من خلال الثقوب الصغيرة الموجودة فى الحائط , ونستطيع أيضاً تسلق الحائط للجهة الأخرى , نستطيع فعل كل هذا دون الحاجة لهدم الحائط , بينما أنت لاتستطيع فعل ذلك بسبب ضخامة حجمك .
ياضخامة الفيل العظيم , إن الله أعطى كلٍ منا ما يؤهله ويعينه على الحياة والبقاء .
ياضخامة الفيل العظيم , إن القوة ليست فى ضخامة الجسم , وإنما فى رجاحة العقل.















Sunday, 16 January 2011

علاقة البعد الإجتماعى وسلوك المجتمع بتطوير التعليم فى مصـر



لا شك فى أن التعليم هو قاطرة التنمية والتقدم لأى دولة ولأى مجتمع , وهو أيضاً نبع لكل روافد الحياة والمعرفة من زراعة وصناعة وتجارة وسياسة وأدب وثقافة وعلوم ...الخ.
ويقاس تقدم الدول بتقدم التعليم والمؤسسات العلمية  والتعليمية والبحثية والأبحاث العلمية بها, وقد ساهم التعليم دول عديدة فى النهوض من حالة إنكسار إلى التقدم  والنمو خاصة بعد الحرب العالمية الثانية مثلما حدث لكلٍ من  اليابان وكوريا والصين وروسيا وألمانيا وإيطاليا  وغيرها من الدول العديدة.

إذن , الإنسان دوماً فى حاجة للتعليم وكما قال أدينا المصرى العظـيم الراحل طه حسين " التعليم كالماء والهواء" أى لا يمكن الإستغناء عنه ويجب أن يظل مجاناً قدر المستطاع.

لن أناقش هنا مسألة مجانية التعليم ولا التجربة الدينماركية الخاصة بمجانية التعليم  ولا حتى الفنلندية ولكن سأحاول جاهداً الحديث عن التجربة المصرية فى المسألة التعليمية وكيفية تحسينها.
فمنذ أكثر من خمسين عاماً , والمسئولين المصريين يتحدثون عن تطوير التعليم وأساليب التعليم الحديث , أرسلوا العديد من المدرسين وخبراء التعليم للخارج وصرفوا ملايين الجنيهات فى تلك البعثات لكى يأتوا لنا بخبرات الغرب المتقدم لتطبيقها فى مصر من أجل النهوض بالتعليم , لكن الواضح بأنه لا توجد أثار أيجابية ملموسة لجهود هؤلاء الخبراء والمبعوثين حتى كتابة هذه السطور , والسبب على ما أظن يتمثل فى الأتى :
1-     أنهم بمحاولاتهم تسييس هذة التجارب ’ أفقدوها جوهرها ومضمونها , فلم تأتى بثمارها الطيبة التى تحققت فى بلدانها الام.
2-     أنهم لم يقـدّروا فى حساباتهم البعد الإجتماعى لتركيبة المجتمع المصرى .
3-     أنهم تجاهلوا المشكلات الرئيسية المعـيقة لتطوير ونهوض التعليم فى مصر وصبوا كل إهتمامهم على جلب تجارب أجنبية ناجحة فى بلادها لتطبيقها فى مصر- كما يقول الترزى " بدلة ومتفصلة للكل".

 وبذلك وكما هو واضح للجميع فإن التعليم فى مصر تراجع فى الثلاثين عاماً الأخيرة رغم كل الجهود المبذولة طوال الخمسين عاماُ الماضية  وبدليل عدم وجود جامعة مصرية واحدة ضمن قائمة أفضل 500 جامعة على مستوى العالم , وبدليل إتجاه أغلب إخواننا العرب للدراسة فى الجامعات الأوربية  والأخرى الغير مصرية بعدما كان يتباهى خريجوا هذه البلدان العربية بأنهم نالوا قسطاً من تعليمهم فى مصر وكانوا يتفاخرون و يتباهون على الملاء بأنهم خريجوا الجامعات المصرية – خاصة جامعة القاهرة -.

و رأيى أن تطوير التعليم فى مصر مرتبط بأبعاد كثيرة , يجب ألا نغفلها , مثل:
1-     البعد الاجتماعى  والسلوك الفردى لأفراد المجتمع .
2-     هدف الدولة من تطوير التعليم .
3-     سوق العمل الحالية والمستقبلية وعلاقتها بالعملية التعليمية .
4-     تطوير المناهج التعليمية .
5-     تطوير السياسة التعليمية .
6-     تطوير المدارس والوسائل التعليمية .
7-     التدريب المستمر للمدرسين والقائمين على الناحية التعليمية وتقييم  أدائهم بصفة دورية .    
8-     التوسع فى إنشاء المدارس الفنية والكليات التخصصية .
9-     فتح جميع التخصصات بما فيها الشرطية والعسكرية لقبول الإناث للدراسة  فيها - لمن يرغب منهن -.

وعلى الجميــــع أن يعتـــــرف بأن فاقــــد الشـــىء , لا يعطيــــه.

لقد سعت الدولة جاهدة فى كل الأبعاد المذكورة بعالية إلا البعد الاجتماعى , بمعنى مفهوم ووعى المواطن تجاه التعليم وخريجى التعليم . كذلك بعض القواعد الإدارية الخاطيئة فى السياسة التعليمية والتى ساعدت على ترسيخ ذلك السلوك الخاطىء تجاه بعض الخريجين وبعض نوعيات من التعليم كخريجى المدارس الصناعية والطب النفسى والطب البيطرى والتمريض للإناث  وغيرهم ولا أنكر أن الإعلام  قد ساهم أيضا فى ترسيخ ذلك السلوك الخاطىء  لدى المواطن المصرى تجاه هؤلاء الخريجين ولكن دائما الإعلام وخاصة المرئى يأخذ مادته الإعلاميه من واقع الحياه . وإن أردنا أن نلومه , فاللوم هنا  ليس لتناوله تلك المادة ولكن لتسويقه إياها.


فلماذا فشلت تجارب تطوير التعليم الفنى فى مصر بالرغم من أهميته ؟ ولماذا لم يتقبل المجتمع المصرى نظام التعليم الفنى ويحاول جاهداً الإبتعاد عنه ؟
 بالرغم من إهتمام كافة الدول والمجتمعات بالتعليم الفنى لما له من دور أساسى ومهم  وحيوى فى تنمية المجتمع بإعتباره أهم عناصر قاطرة التقدم , فمازالت نظرة المجتمع المصرى للتعليم الفنى , نظرة متدنية  وسطحية جداً , حيث  يصفهم المجتمع بأنصاف المتعلمين , بالعمال , بالأوسطاوات  مع العلم بأننا كلنا عمال فـرئيس الدولة عامل فى الدولة فى وظيفة رئيس دولة ولكن نظرة المجتمع للعامل كما قلت سابقا هى نظرة متدنية وإن كان التفسير اللغوى للكلمة خاطىء - ويحضرنى فى هذا المقام وصفاً طريفاً  وعجيباً نستخدمه فى حياتنا نحن المصريين  , حينما نريد أن نصف إنسان بأنه غير متحضر أو شىء من هذا القبيل أو عندما نصف شىء بأنه أقل من عادى  أو دون المستوى  , فنقــــول " ده بـــــلدى قـــــوى ".
مفاهيم خلقت نوع من الطائفية  والطبقية بين أفراد الشعب, فعندما يذهب شاب لخطبة حبيبته  أو طلب يد فتاة من أسرتها , فأول سؤال تسأله الأسرة " معـــاك شـــهادات ايــــه " وقد يفقد الشاب حلمه بالإرتباط بمحبوبته ليس لجرم إقترفه , بل لأنه حاصل على دبلوم الصنايع  مثلاً , أى أنه عامل أى أسطى  شأنه شأن عامل التراحيل -  مع إحترامى وتقديرى لكل العمال فى مختلف مهنهم وطوائفهم -  ولكننى هنا أناقش واقع  نعيشه . وساعد على ذلك أيضاً  المسمى الوظيفى لهؤلاء الخريجين فى ملفات خدمتهم والذى بالتبعيه يكتب فى بطاقات الهويه  الشخصية -  بطاقة تحقيق الشخصية - وفى جوازات السفـر فنجد هذا عامل برادة  وذاك  عامل خراطة  وهذا عامل لحام وذاك  عامل كهرباء أو كهربائى
وهذه الألقاب يحصل عليها كل مزاولى للمهنة دون الحاجة للتعليم والحصول على شهادات تعليمية , فما الفرق إذن بين عم محمد الكهربائى الأمى الذى لا يجيد القرأة والكتابة وبين ذلك الحاصل على دبلوم الصنايع الذى قضى 12 عاما فى المدارس بدأها بالمدرسة الإبتدائية ونهاها بالمدرسة الثانوية الصناعية ؟ لا شىء سوى علاوة إجتماعية قدرها جنيه ونصف تضاف إلى مرتبة الأساسى  عند بداية تعيينه فى الوظيفة ولا شىء أخر.
لن ألقى الضوء هنا عن صورة هؤلاء- خريجى التعليم المتوسط - وأخص منهم خريجى المدارس الصناعية والتمريض للإناث - فى الإعلام المصرى وإتخادهم مادة كوميدية للتسلية والإضحاك , ولكنى سؤجل الكلام عن دور الإعلام فى الشأن لمقال أخر – إن شاء الله -.
أضف الى ذلك , الصعوبات القسوى التى يواجهها هؤلاء الخريجين الراغبين فى إستكال تعليمهم الجامعى وتحطيم أمالهم وأحلامهم فى التعليم العالى والحصول على شهادة جامعية أمام قوانين وقواعد نظام تعليمى حالى , عقـيم.
أضف الى ما ذكرته سالفاً , نظرة المجتمع للممرضات , وإتهامهن بسوء السلوك , حالة مرضية يعانى منها مجتمع لا يفرق بين المريض النفسى والطبيب النفسى الذى يقوم بعلاجة وتأهيله.

لقد إختصرت السياسة التعليمية المصرية عناصر تطوير التعليم فى تحسين أحوال المدرسين .ظنوا بأنهم سيقضون بذلك على الدروس الخصوصية وتطهير ضمائر المدرسين وبالتالى سيقومون بواجبهم على خير وجه داخل الفصول , فكيف يحدث ذلك وأنا أعلم أن هناك بعض مدرسين تخطى دخلهم الشهرى من الدروس الخصوصية حاجز الـ 15000 جنيه ؟ كيف وأنا أعلم بأن أحد مدرسى الدروس الخصوصية يغيـّر سيارتة للموديل الأحدث كل عام ؟ فهل ستعطيه وزارة التربية والتعليم راتب أكبر من دخله من الدروس الخصوصية لإقناعه بالأقلاع عن الدروس الخصوصية  والله لن يحدث هذا حتى لو فعلوها - فالبحر يحب الزيادة -
المشكلة يا سادة , أن الرغبة فى الحصول على شهادة جامعية أياً كان تخصصها بهدف البعد عن التعليم المتوسط والفوق المتوسط  وإرضاءً لسلوك إجتماعى مرضى بالمجتمع هى السبب الرئيسى فى الدروس الخصوصية , أضاف لذلك بعض القرارات العقيمة فى السياسة التعليمية كعدم إمكانية الإلتحاق بالتعليم الجامعى إلا بشرط الحصول على الشهادة الثانوية للعام الحالى أى أن الحاصل على الشهادة الثانوية فى أعوام سابقة , محروم من التعليم الجامعى عقاباً له على ظروفه الإجتماعية التى ما مكنته من الإلتحاق بالجامعة فى نفس سنة تخرجه من المدرسة الثانوية . أضف الى ذلك أيضا عدم تكافؤ الفرص أمام خريجى المدارس الفنية بالإلتحاق بالجامعة كنظائرهم خريجى الثانوية العامة . وغيرها من السياسات التى ساهمت فى الحالة المرضية لسلوك المواطن المصرى تجاه التعليم وبعض فئات من خريجيه.

إذاً علينا بالبدء فى تغيير سلوك المجتمع تجاه التعليم والخريجين - أولاً- حتى نقضى على فوبيا عدم الحصول على شهادة جامعية . علينا الإهتمام بالتعليم الفنى وتهيئة المجتمع لقبول خريجية والتعامل معهم على أنهم عناصر مهمه فى قاطرة التنمية والتقدم من خلال مجموعة من القوانين
التى أظن أنها ستساهم كثيراً فى حالة التطوير المستقبلية للتعليم.
فلماذا لا نلغى مسمى الثانوية العامة ونؤسس نظاماً جديداً للمرحلة الثانوية . فلتكن البكالوريا مثلاً ويكون لها تخصصات  هندسية أو صناعية أو تكنولوجية  , علمية , حاسبات ومعلومات , تجار وإقتصاد , تدريس  , تمريض و خدمات صحية  , زراعة وغيرها من التخصصات المختلفة . بكالوريا تكون شهادتها صالحة للعمل بها كفنى فى مجال تخصصة  وتسمح لحاملها بالإلتحاق بالجامعة فى الكلية المتوافقة لدراسته التى أتمها فى مرحلة البكالوريا فى أى وقت يشاء وفى أى سن حتى وإن تخطى سنه السبعين , حتى وإن كان حصوله على البكالوريا قد تم منذ خمسين عاماً.
لماذا لا نلغى نظام مكاتب التنسيق ونستبدله بإختبارات قدرات تحددها الكليات المعنية للراغبين فى الإلتحاق بها بغض النظر عن المجموع .
أظن بذلك سنخفف الضغط عن الأسر المصرية التى تنفق 60% من دخلها على الدروس الخصوصية بهدف ضمان حصول أبنائهم على مجموع فى الثانوية العامة تمكنهم من الإلتحاق بالجامعة وحصولهم على الشهادة الجامعية .... فعندما تكون هناك فرص عمل متكافئة لجميع حاملى البكالوريا للعمل بها كفنيين و عندما يتيقن حاملها من أنه يستطيع الإلتحاق بالجامعة للدراسة فى الكلية المتوافقة مع الشعبة التى أتم دراستها فى مرحلة البكالوريا , سنقضى بذلك على الحالة المرضية للمجتمع والمتعلقة بالتسابق مع الزمن من أجل الحصول على شهادة جامعية اليوم قبل الغد , لمجرد أن يقال بأنه أو بأنها جامعية. وقد يساهم ذلك فى إقصاء مشكلة الدروس الخصوصية  بالمجتمع – فلن يعد لها مبرر –

هذا عن البعد الإجتماعى وكيفية علاج حالة مرضية سلوكية أصابت المجتمع المصرى منذ فترة طويلة نتيجة لسياسات تعليمية خاطئة سابقة ومازالت, وإلى لقاء فى مقال أخر نستكمل فيه نظرتنا لتطوير التعليم المصرى والوقوف على ما به من إيجابيات وسلبيات .














Friday, 14 January 2011

شكـــــراً زين العابديـن




إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة
فـــلا بد أن يستجــيب القـدر
ولابد لليــــــل أن ينجــــلى
ولابد للقـــيد أن ينكســــــر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخـــر فى جــوها وإندثــــر 

        
       قالهـــــا من قبـل الشـــاعر التونســـى العـظيـــــــم : أبـو القـاســم الشــــابـى .
ولكننا اليوم نقول :  إذا الشعب يوماً أراد الحياة .... فلابد أن يستجيب الطغاة .
شكراً تونس , شكراُ زين العابدين ...... وليسجل التاريخ أنه فى مساء يوم الجمعة الرابع عشر من يناير عام 2011 , بفراره , قد تنازل الرئيس التونسى " زين العابدين بن على " عن الحكم والذى مكث فيه ثلاثة وعشرون عاماً ونيف ( من 7 نوفمبر1987 إلى 14 يناير2011) .
 ترك الرئيس التونسى زين العابدين بن على  السلطة وفر إلى خارج البلاد نزولاً على رغبة الشعب التونسى الذى رفضه ورفض معه كل أشكال الديكتاتورية . فر زين العابدين إلى الخارج بعد عصيان مدنى ومظاهرات  دامت لأكثر من شهر( منذ 18 ديسمبر 2010 ) وعمت كل مدن وقرى تونس الخضراء , مظاهرات واجهت فيها الشرطة الشعب وقتلوا أكثر من خمسة وعشرين من المتظاهرين , بجانب إعتقالات تمت لقادة المظاهرات ولنشطاء سياسيين , مظاهرات كان شرارتها الأولى محمد البوعزيزى , الشاب التونسى  الذى أشعل النار بنفسه إحتجاجاً على إهانته من قبل شرطية لتنفجر بعدها نيران الغضب المكتومة والحبيسة من سنين.

 نصبت الشرطة قناصيها فوق أسطح المبانى لإقتناص المتظاهرين ببنادقهم ولكنهم فشلوا فى فض العصيان المدنى . تدخل الجيش ولكنه أيضاً فشل . كانت إرادة الشعب  أقوى من أى مواجهه معه.

أدرك زين العابدين أن هذه المرة ليست كسابقتها من المرات التى نجح فيها رجالة بإسكات أصوات معارضيه وعزلهم فى سجون نظامه الديكتاتورى . أدرك زين العابدين بان هذه المره مختلفه , فهو عصيان مدنى عام وشامل . أدرك ماذا يريد التونسيون منه . أدرك أن اللعبه قد أنتهت وذكر ذلك صراحةً فى أخر خطاباته للشعب التونسى فقد قال : لقد أدركت وفهمت ماذا يريد التونسيين .
وكان قرار زين العابدين فى النهاية بالفرار إلى الخارج مع أسرته مع ضمانات من الأمريكان والفرنسيين بعدم التعرض له ولأسرته.
وأغلب الظن أن فرنسا سترفض إستضافته لحفاظها على دورها القيادى فى المجموعة الفرانكوفونية من ناحية ولعدم إغضاب وإستثارة المعارضة التونسية التى تتخذ من فرنسا مركزاً وقاعدة لها  , من ناحية أخرى , كذلك الدول الغربية لن تسمح له بدخول أراضيها , لعدم إغضاب أمريكا التى ستستثمر هذه الإنتفاضه فى باقى دول الشرق الأوسط وخاصة العربية منها.
إذن لا مكان لزين العابدين إلا فى دول الخليج العربى - إذا وافقت إحداها على إستضافته -  وهذا هو السيناريو الأقرب للموقف الراهن .

فبالرغم من إعجابى بالشعب التونسى وإصراره البطولى , الذى أعطى به المثل لكل شعوب المنطقة وأنظمتها الحاكـمة  , وأرى فى ثورته هذه جرس إنذار لباقى الأنظمة الديكتاتورية ودافع وحافز لباقى شعوب المنطقة وخاصة الأشقاء فيها . فبالرغم من إعجابى وتقديرى لتضحيات ذلك الشعب العظيم الذى كسر قلاع الديكتاتورية بمعاول إصراره , إلا أننى أقدر لزين العابدين قراره بالفرار. فقد أنقذ زين العابدين نفسه وأنقذ بلدٍ كانت على وشك أنت تلتهم نيران الغضب الشعبى فيها  كل أخضر ويابس .
فهـِم زين العابدين ماذا يريد التونسيين , وإستجاب لهم . نعم لقد فهم متأخر جداً , وهذه ثمة كل ديكتاتور , ولكنه فهـِم , حتى ولو كان ذلك الفهـم أتى متأخر .
كان بإمكان زين العابدين المكابرة والغطرسة والتمسك بالحكم حتى يفاجأ بعاقبة لم يحسب لها حساب , لكنه من وجهة نظرى فهو ديكتاتور ذكى أدرك ان اللعبة لم تعد فى صالحه الأن بالمرة وأنها قد إنتهت وللأبد , فقرر الفرار . لم يفعلها صدام حسين , ولم يفعلها شاوسيسكو , ولم يفعلها مانويل نورييغا- ديكتاتور بنما السابق -  ولم يفعلها الجنرال فرانكو - ديكتاتور أسبانيا السابق -  الذى ظل متمسكا بالحكم والسلطة , رغم معاناته اليوميه من مرض لازمه لأكثر من خمسة عشر عاماً وقد أخفى ذلك عن شعبه متمسكاً بالسلطة , لكن نهايته كانت مأساوية فى إحدى مستشفيات أسبانيا , ولم يفعلها شاه إيران ,  وغيرهم  الكثيرون . لذلك كانت نهايتهم مؤلمة ومفجعة  , ليس فقط لشخصهم ولكن لبلدانهم أيضاً , فأنظر ماذا حدث للعراق ولرومانيا ولإيران حتى السودان اليوم الذى رضى حكامه بتجزءته الى دولتان فى مقابل إستمرارهم فى الحكم.

كل هؤلاء لم يفعلوا ما فعله زين العابدين الذى أنقذ نفسه وأسرته  وأنقذ بلاده أيضاً من حرب أهلية وفوضى ودمار , كان معد له فى خطواتٍ تاليه للعصيان , فهل سيفعلها  الدكتاتوريين الباقين قريباً !!, نحن لمنتظرون .
فشـــــكـراً لتـونس على الإسـتفـــاقـة , وشــــــكـرأ لزيـن العـابديــن على فـراره  فقد كان فى فراره حقناً لمزيد من دماء التونسيين ولعل باقى الطغاة يتخذون من فراره مثلاً وقدوة يحتذى بها , حين تهب عليهم عاصفة التغيير ورياح الإرادة الشعبية ..














الفـــلاح الفصـــيح




منذ فجر التاريخ وهناك عدم انسجام فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم , فدائماً ما يطالب المحكوم بالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة , وغالباً ما يرى الحاكم بأن تحقيق ذلك بالشىء المستحيل , الأمر الذى يسمح لقوانين الحاكم بمعاقبة كل من يجرؤ على تعكير مزاجه ويطالب بحقة فى العدل والمساواة والحرية والديمقراطية. والويل كل الويل لمن يتهم الحاكم أو احد بطانته ومعاونيه بالتقصير والإهمال تجاه رعاياه .
 فمن بين القصص الشيقة والتى نقلها علماء المصريات عن البرديات المصرية القديمة , قصة الفلاح "خونا نوب" والذى عرف عبر التاريخ بالفلاح الفصيح , ذلك الفلاح الذى إستطاع بفصاحته و إصراره أن يحصل على حقه  المسلوب من خلال كتابته لتسع رسائل تمثل تسع شكاوى كتبت بإسلوب رائع وشديد البلاغة , ضارباً  لنا المثل فى إصراره على إعادة حقه المسلوب , بإسلوب أدبى عظيم  وبثقته  فى نفسه وفى نصرة الحق  والعدالة فى النهاية.
هو فلاح مصرى عاش منذ 4000 سنة  فى قرية حقل الملح بمحافظة الفيوم المصرية . فى عهد الملك " نب كاورع " أحد ملوك  هراكيلو بوليس ( مدينة أهناسيا الحالية ) وأحد ملوك الأسرة العاشرة
وإليكم قصته :
"خونانوب" هو فلاح مصرى بسيط ، كان يسكن فى منطقة " وادى الملح " فى وادى النطرون غرب إقليم الفيوم . وجد " خونانوب "  ان مخزن الغلال اشرف على النفاذ فحمل قطيعا من الحمير بحاصلات قريتة واتجة نحو المدينة ليستبدل حاصلاتة بالغلال وكان الطريق يحتم علية بالمرور بمنزل" تحوتى ناخت" وهو موظف كبير, فعندما شاهده تحوتى طمع فى الحمير فأغلق الطريق امام الفلاح وإفتعل حيلاً لإيقاع بذلك الفلاح فى الخطأ من أجل معاقبته بمصادرة حميره - الطامع فيها- فأضطر للسير داخل الحقل المملوك للملك فأكل حماره شيئا من الحقل فأنقض
" دجحوتى نخت " على الفلاح وقبض علية وصادر الحمير وتعرض الفلاح للإهانة والتعذيب والسجن بتهمة  أكل حماره من محصول أرض الملك دون وجه حق والاخلال بأمن الدولة .

 
وأمام هذا الموقف لجأ "خونانوب" إلى حاكم الإقليم وأمير المقاطعة "رينسى بن ميرو" لكى يشكو إليه  ما حدث له من الموظف الكبير الظالم أملاً  فى أن يحصل على حقه.
وبعد تعب ومشقة وصل "خونانوب" الى بيت حاكم الإقليم وقدم إليه شكواه , قرأ حاكم الإقليم شكوى "خونانوب" مرة واثنان وثلاثة ,لأعجابه ببراعة أسلوب ذلك الفلاح "خونانوب" فى الشكوى , وساله مراراً عن كاتب هذه الشكوى , فأجابه انا من كتب كل كلمة بها ياسيدى  حيث قال فى شكواه الأولى :
"إذا ذهبت لبحر العدل وسحت عليه في نسيم عليل فإن الهواء لن يمزق شراعك وقاربك لن يتباطأ، ومرساك لن ينكسر ولن يغوص قاربك حينما ترسو علي الأرض.
ولن يحملك التيار بعيداً ولن تري وجهاً مرتاعاً. إنك أب لليتيم وزوج للأرملة وأخ للمهجورة.. دعني أجعل اسمك في هذه الأرض فوق كل قانون عادل فتكون حاكماً.. خلا من الشره وشريفاً بعيداً عن الدنايا فهل لك أن تسمع: أقم العدل أنت الممدوح الذي يمدح من الممدوحين اكشف عني الضر انظر، انظر إلي إن حملي ثقيل"
أعجب الوزير بفصاحة وبلاغة اللغه التى عرض بها الفلاح شكواه  واحس بظلمه وأمله فى الحصول على العدل والحق . فعرض شكواه على  الفرعون " نيبقورع" الذى أمر الأمير "رينسى بن ميرو" بإعادة الفلاح  " خونانوب " إلى أسرته  دون مضايقة وبعد عودته للببيت , فوجئ بوجود طعام وشراب وقد أبلغته زوجته أن الإله "ماعت" أرسل إليه  هذه الخيرات لأنه  يعلم أن زوجها مظلوم ولكى يخفف عنة ويكافئه.
ولكن  كل هذا لم يرضى  " خونانوب " فقرر بألا يسكت  عن طلب الحق فجلس فى إصرار ليكتب شكواه الثانية ، وصمم متمسكاً بموقفه الطالب لعودة حقه وتحقيق العدل. وكانت الشكوى هذه المرة تتسم بالقوة والحماسة والحدة ،كانت  عنيفة حيث قال فيها :
" يا عظيم العظماء , يا أغنة الأغنياء , أليس من الخطأ ان يميل ميزان وينحرف ثقل , ورجل مستقيم يصير معوجاً . فأنت الدفة فلا تنحرف , وانت الميزان فلا تميل . كن معيناً حتى تظهر قيمتك واضحة . إجعل لسانك ينطق بالحق . فانت يأعلم الناس , أيعقل انك تجهل أمرى . يا مرشد كل غارق , نجنى مما أبتليت به ".
وعندما قرأ الأمير الشكوى الثانية  أثرت فيه و لكنه لم يستطع فعل شيء له خوفاً من غضب الفرعون  لكن ضميره  كان يؤرقه لاحساسه بحجم الظلم الذى تعرض له الفلاح  "خونانوب" فطلب من الحارس الخاص به أن يأخذ قافلة و يذهب بها الى بيت "خونانوب" و عندما وصل الحارس إليهم قال لهم  انه حارس المعبد أتى بهذة الخيرات لاعانته فى محنته  .ولكن "خونانوب" ظل غاضبا لأنه لم يستطع الحصول على حقه  بالشكل الذى يرضيه فهو يريد حميره . ففكر فى كتابه شكواه  الثالثة .ولكن قبل أن يرسلها ذهب إلى الأمير "رينسي بن ميرو"  ليسأله عن مصير شكوتاه السابقتين  ، فلم يستطع الأمير إجابته  , كانت الإجابة تقف في حلقه . لا يستطع النطق بها. ولكنة  وعده بالنظر فى شكواه , الأمر الذى دفع  " خونانوب " بالشروع فى كتابة شكواه الثالثة لعدم إرتياحه لرد الأمير.
أرسل خونانوب الشكوى الثالثة رافعا صوته ومناديا بحقه حيث قال فيها :
" أيها المدير العظيم . يا سيدى , ضيق الخناق على السارق , وارحم الفقير , فلا تكذب وأنت العظيم , ولا تكن ضعيفاً وأنت الرزين , ولا تقل الكذب , وأنت ميزان العدل فى البلاد , ولا تميل وأنت الاستقامة نفسها , إتق قرب الأخرة "
عاد "رنسي بن ميرو" إلى قصره حزينا و غاضبا فهو لا يستطيع التحمل أكثر من ذلك. و كلمات الفلاح المسكين تحمل له اتهاما صريحا بالكذب و الظلم و تنذره بالموت و عقاب الإله .الملك" نيبقورع" الفرعون لا يهتم بنصرة الحق والانتقام والثأر من الظالم ولا يستطيع تعويض "خونانوب "عن ما يعانيه من آلام نفسيه ومادية جراء الظلم الذى تعرض له.
أخذ  الأمير  فى إرسال شكاوى الفلاح إلى الفرعون .كان الأمير واثقا أن الملك سيغير رأية بعد أن يقرأ شكوى "خونانوب" هذه. إنتظر الأمير رد الملك   الفرعون ولكن الرد المتوقع من الفرعون كان مخيباً للأمال .
خيب الفرعون آمال الأمير وأرسل جواباً بأمر ملكى واضح وقاطع قال فيه" لا تجيب على شكوى خونانوب "
صرخ "رينسى بن ميرو" وكاد رأسه ينفجرمن الصراخ . وبدأ يسال نفسه فى عجب قائلا :لماذا يصر الفرعون على تجاهل شكوى الفلاح ؟ وفى نفس الوقت يطلب أن تأتى إلية شكاوى الفلاح أولا بأول!!! كان يسأل فى غرابة : كيف يهتم بالشكاوى ويأمر بعدم إجابتها والرد عليها . كاد "رينسى بن ميرو" أن يفقد عقله لعجزه عن رفع الظلم عن الفلاح ومخالفة أوامر الفرعون.
وبينما كان رينسى يفكر فى هذا الأمر فإذا بخادمه يحمل رسالة جديدة   دق َقلب" رينسى بن ميرو" فإنه يعرف الرسالة من شكلها الخارجى إنها رسالة جديدة من "خونانوب" فياترى ماذا يقول الفلاح فى رسالته الجديدة هذه . أسرع الأمير بفتح الشكوى وهو فخور بتصميم هذا الفلاح فى الحصول على حقه وبينما هو يقرأ الشكوى بدات علامات وجهه تتغير حتى ملأ الغضب وجهه  حيث قرأ فيها :
" أنت عادل لا وجود لعدله , لقد وليت وجهك شطر الظالمين , فمن عسى أن يرد الضلال والفجور ؟ لا تكن ظالماً حتى لا تدور عليك الدوائر . فهذه هى المرة الرابعة التى أستجير بك فيها , فهل سأقضى عمرى فى ذلك "

كانت الإتهامات الموجهة  للأمير قاسية  و مباشرة و الأقسى من ذلك أنه لا يستطيع تبرئة نفسه من هذه الإتهامات, لإحساسه بالمسئولية تجاه رعاياه. ولكن رسائل "خونانوب" بدأت تغضبه لما بها من إتهامات مباشرة له بأنه لا يحقق العدالة للمظلومين , فأراد أن يوقفه عن إرسال شكاويه مرة أخرى . خاصة إن الفرعون لا يهتم بشكواه وهو لايستطيع فعل شىء يخالف رغبة وأوامر الفرعون , فأرسل الأمير لاحضار الفلاح "خونانوب".
دخل خونانوب إلى حاكم الإقليم
 فحدثه الأمير بغضب و هدده بالسجن و الضرب بالسوط إذا لم يكف عن الشكاوي و الإهانات . لم يخف" خونانوب" من تهديد الأمير له, حاولت زوجته بكل الطرق أن تدفعه للكف عن الشكاوى و أن  يترك الأمر للإله و هو الذي سيثأر له و لكن ابنه" تحوت زاده " حماسه وشجعه على مواصلة كتابة الشكاوى وعدم التفريط فى حقه . الأمر الذى دفع  "خونانوب" الى كتابة  شكواه الخامسة ليفهم الأميرأنه سيكمل المشوار حتى نهايته . و كانت هذه الشكوى أشد حده و قوه جاء فيها:
" لقد نصبت لتسمع الشكاوى وتفصل بين المتخاصمين وتضرب على يد السارقين , ولكنى لا أراك تفعل شيئاً غير مناصرة الظالمين , أولاك الناس ثقتهم فتخليت عنهم "
عاد القلق إلى" دجحوتي نخت "- الموظف الظالم - بسبب كثره زيارات خونانوب  للأمير , طمئن نفسه بإعتقاده أن السبب في هذه الزيارات هي الشكاوى و أمر رجاله بالتربص لخونانوب  لينهالوا عليه ضرباً حتى لا يقوى على الكلام بينما جلس الأمير في قصره يقرأ شكوى خونانوب و يسأل عن طبيعة هذا الرجل المصر على إستعادة حقة مهما كلفه ذلك !!!
فقد قرر  الأمير أن ينفذ تهديده لخونانوب و ذهب  رنسي إلى قاضي المقاطعة و أطلعه على شكوى خونانوب و طلب رنسي من القاضي أن يخفف العقوبة عن خونانوب بقدر ما يستطيع ,وتم القبض على خونانوب و حكم عليه بالجلد بالسيط بدلا من الحبس .
وقام رجال" دجحوتى نخت " بزف الخبر السعيد إلى رئيسهم فسر وإطمئن . تحمل خونانوب آلامه  من قرعات السياط وعاد إلى بيته ولكن " تحوت زاده "  - الابن - كعادته أخذ يقوى من ساعد أبيه ويصبره ويدعوه لمواصلة الشكاوى .ويواصل خونانوب فى إصرار لا مثيل له ويكتب مرة أخرى , شكوى أخرى فقد عاهد نفسه بالدفاع عن حقه حتى يناله أو يموت دونه وبدأ شكواه السادسة :
" إن حزنى يحمنى على الفراق ويدفعنى الى الرحيل . لا تتوان فى شكايتى, أنك تسيّر أمورك على عكس ما ينبغى "
نظر الأمير الى الشكوى متسائلا عن طبيعة ذلك الرجل الفلاح , المصر على إسترجاع حقه بالرغم من كل محاولات الأمير لإرضاءه وتعويضه بطريقة أو بأخرى  وإقناعه بالتخلى عن الشكاية , فالأمل فى إستعادة حقه بات معدوماً . فتح الأمير الرسالة ولكن حديث خونانوب عن ترك البلاد كان مؤلما ولو نفذ  خونانوب هذا التهديد ورحل لطاردت الأمير عقدة الذنب  فقرر أن يفعل شيئا من أجل خونانوب وبدأ يفكر :أخيرا لمعت فى ذهنه  فكرة وهى الإستعانه برئيس الشرطة.
طلب الأمير من رئيس الشرطة بالتحقيق فى سلوك الموظف" دجحوتى نخت " وأمره بعدم القبض علية مهما جمع من أدلة ضده.  وفى وقت قصير جمع رئيس الشرطة الأدلة وتعجب كثيرا عندما رأى الجرائم الموجهة إلى دجحوتى دون أن تقدم فى حقه  شكوي  واحدة - ذلك الموظف الظالم , المستغل لوظيفته , الظالم للناس , مرتكب الجرائم فى حق الشعب؟ أخذ يتساءل ويتساءل وبذل جهدا كبيراً في إقناع الناس بخطأهم  وسكوتهم على الظلم.
وبسرعة ذهب رئيس الشرطة إلى الأمير ليضع تحت يديه  الأدله والبراهاين التى تدين ذلك  الموظف الفاسد وكان ينتظر بشغف لسماع  لستصدار أمرٍ بالقبض على هذا الشرير.
أخذ رئيس الشرطة يحدث الأمير عن سلبية الناس ومساندتهم للظلم ولكن الأمير مد يده لرئيس الشرطة بشكوى خونانوب الســابعة .  قرأ رئيس الشرطة عبارات الشكوى والتى جاء فيها :

" لا تكن عنيداً فالعناد ليس من شيمتك , لا حياة لفقير مالم يكن له فى العدالة منزلة, سيضيعك إهمالك , ويؤذيك جشعك , وسيخلق لك الاله ,أعداء"
بعد كل هذه العبارات القاسية إلا أن الأمير وجه لطمة قاسية إلى رئيس الشرطة بعدم أمره بالقبض على دجحوتى وعندما علم دجحوتى بالأمر أقام حفلا عظيما بإنتصار الشر ومن هنا تأكد لدجحوتى أنه يحظى بحماية الأمير- حاكم الإقليم - مباشرة ولن يمسه الضرر خاصة أن الشاكى فلاح بسيط , لكن رئيس الشرطة شعر أن الواجب يناديه وأنه ليس من الأمانة  السكوت عن هذا الظلم بان يرى اللصوص ولا يضرب على أ يدهم  ولن يقبل بأن يشاهد الظلم دون مواجهته  و أن يكمل أدلته بموضوع الفلاح "خونانوب"  . و بالفعل ذهب رئيس الشرطة  إلى خونانوب و طلب منه أن يقص عليه حكايته ووعده  بإصدار أوامر بالقبض على " دجحوتي نخت" بأمر من الملك  شخصياً , فقص عليه" خونانوب" حكايته و أرسل معه الشكوى الثامنة ليرسلها إلى الفرعون . سعد  كلٍ من خونانوب و زوجته و إبنه تحوت و قضوا ليلة رائعه, و بالفعل ذهب رئيس الشرطة  إلى فرعون مصر و عرض عليه أمر" دجحوتي نخت" و قدم إليه شكوى الفلاح- الثامنة- و طلب رئيس الشرطة من الفرعون بالنظر فى أمر" خونانوب " لإستعادة حقه و معاقبه ذلك الموظف الذى يسىء للدولة وللفرعون بأفعاله هذه.  فطلب الفرعون من الوزير أن يقص عليه الشكوى والتى جاء فيها :
" الناس معرضون للسقوط بسبب الطمع والجشع وذلك لا يتفق وإياك , أنك تسرق وذلك لا يليق بك , لأن جوفك قد ملىء ولأن مكيال القمح قد طفح وإذا هز , طفح وضاع على الارض . أقم العدل لرب العدل الذى أصبحت عدالته موجوده , أنت أيها القلم ,وأنتِ أيتها البردية ويا أيتها الدواة ويا " تحوت " إبتعدوا عن عمل السوء , فالحق يذهب مع صاحبه الى القبر , أما إسمه فلن يمحى من الأرض , بل سيخلّد بسسب الحق وهذا وعد الإله. وهذا عدل الإله فى كلمته . أقم العدل لإنه عظيم وكبير ويعيش طويلاً والإعتماد عليه يوهب العمر الطويل "
دارت الأرض برئيس الشرطة عندما أمر الفرعون بعدم القبض على" دجحوتي نخت" و فقد توازنه عندما تلقى بأذنيه  الأمر الثاني بعدم الإستماع إلى الشكاوي"  خونانوب" و انتظر خونانوب طويلا و ذهب لمقر رئيس الشرطة لكنه وجده يتهرب منه كما فعل "رينسي بن ميرو"  أخذ " خونانب " يتسأل ماذا يفعل " دجحوتي نخت"  لكل هؤلاء ليجعلهم يميلون إليه , يميلون الى الشر على حساب الخير , يميلون لنصرة الظالم على حساب المظلوم  فالكل يهرب منه : الملك وحاكم الإقليم ورئيس الشرطة , فماذا يفعل ؟ و تذكر خونانوب كلام زوجته و تذكر الظلم الذي تعرض له من دجحوتي و الأمير . فقرر خونانوب أن يطوي آلامه بداخله و يستسلم, ذهب إلى بيته فوجد تحوت أمامه  وقد حمل لوحاً مستطيلاً مصنوع من الجص وعلى اللوح كانت صورة لجيش كبير صنعها تحوت من الطين الرطب  , كان الجيش بكل جنوده وأسلحته ملقى على الارض , مهزوم ومبعثر وفى الجهة الاخرى المقابلة للجيش يقف رجل وحيد أعزل والإله ماعت – إله العدل -  يقف فى ظهرة , ملتصقاً به  , بينما يمتد ثقب من عينى الإله الى عينى الرجل الواقف أمام الجيش المهزوم  . نظر تحوت الى أبيه وقال أنظر يا أبى هذا هو جيش الظلم الذى يحاربك كم هو كبير ومسلح  لكنه فى النهاية مهزوم , وانظر لهذا الرجل هو أنت يا أبى , فأنت لست بمفردك , إله العدل يحرسك  . أنهمرت دموع "خونانوب" . نهض  "خونانوب" و قرر بأن يتقدم بشكواه الأخيرة  لحاكم الإقليم و كانت الكلمات هذه المرة  ملتهبة  عما ذى فبل , كلمات لسان حالها يقول ان كاتبها لا يخشى أحد .
"لا تكن ثقيلاً , فما أنت بخفيف . لا تكن بطيئاً فما أنت بسريع . لا تنهر من أتاك مستجيراً . أخرج من صمتك وأقض بالعدل . لا تغمض عينيك عما تراه . لا تقس على من جاء يشكو إليك . عندما يكون المتهم فقيراً والفقير شاكياً يصبح العدو فتاكاً "
وفى ذاك الحين قد أرسل "دجحوتى نخت"  هدية إلى قصر رينسى مع أحد عبيدة , فكر حاكم الأقليم أن يرجع   الهدية إلى دجحوتى ويوقع علية أقصى العقوبة لرشوته ولكنة قرر أن يدينه بفعلته أمام الفرعون حتى يكون عقابه  أعظم وأكبر.
إطمأن دجحوتى لقبول الأمير هديته وعاد إلى قصره مسرعاً يطير من الفرحة وتمتلئ نيته بالشر تحاه ذلك الفلاح البسيط الذى يراح يشكيه لحاكم الإقليم ومن ذا الذى يجرؤ على شكايته  , فمن يجروء على شكايته سيكون مصيره مقر الصمت – القبر -  بل الموت لكل من يقف فى وجهه.
شاهد خونانوب رئيس الشرطة عند عودة من تسليم الشكوى التاسعة لخادم الأمير وهدده إذا لم يصل ردا لشكواه غدا سيذهب إلى الفرعون ويأخذ حقه بنفسة.
ذهب رئيس الشرطة إلى رينسى بن ميرو وقص علية ما سيفعله خونانوب فأخذ  راحلته واتجه إلى قصر الفرعون وقدم إلية آخر شكاوى خونانوب وقرأها وأمرهم بالعودة حتى يبعث إلية بشكواه التالية فأخبروه بما سيفعله خونانوب , فأمر الملك رئيس الشرطة أن يحضر دجحوتى نخت وفى قاعة العرش وقف خونانوب و دجحوتي أمام الفرعون أمر الفرعون   خونانوب أن يعرض شكواه  , لملم خونانوب كلماته قال )لقد وصلت شكواي إلى جلالتكم و أنا راض  بعدلكم )
طمأن الفرعون خونانوب بأنه لن يهمل شكواه و لكن كان يستمتع بحسن بيانه و سحر أسلوبه و ستكون شكواه نموذج  للفصاحة و الأدب  كما شكر الفرعون الأمير رينسي لطاعته لمولاه و محاوله مساعده خونانوب دون عصيان أوامره و شكر ه رئيس الشرطة على أمانته و أدائه  للواجب أما دجحوتى فقد صار عبدا لخونانوب وامتلك خونانوب كل الأموال و الأملاك لعدله وحكمتة. أمر الفرعون بكتابة الشكاوى التسع فى البرديات لتحفظ على مدى الاجيال.
عاد خونانوب عزيزا مرفوع الرأس بالحق بعد أن كتب أعظم مثال لفلاح فصيح صمم عل استرداد حقه حتى ناله .










Monday, 10 January 2011

المحفـل الماسـونى الذى حكـم مصـر






     مربكة هذه الدراسة ومرهقة وصادمة ومحيرة وموترة كذلك.
كلما عبرت من صفحة إلي أخري انتابتك هذه الأسئلة العميقة الآسرة في حياتك، هل ما نعيشه مجرد خدعة؟ هل هناك مؤامرة منذ مئات السنين تقود مصر وتنقاد لها ونحن غفل أو مستغفلون؟
مشكلة هذه الدراسة ليست في معلوماتها الموثقة ولا الحقائق التي تزيح عنها التراب وتنزعها من مخابئها بل في مدي فرط معلوماتها المزعجة التي تدفعك إما إلي الشك في كل هذه المعلومات (رغم ثبوتها السخيف!) أو أن تسلم بقنوط بأن رجال مصر الكبار المؤثرين القادة والفاعلين في تاريخنا كانوا إما أنهم ضحكوا علينا أو كانوا مضحوكاً عليهم.
الدراسة تحمل عنوان (الماسونية والماسون في مصر) وهي في الأصل رسالة ماجستير نالها المؤلف وائل إبراهيم الدسوقي بإشراف واحد من أساتذة التاريخ الكبار هو دكتور أحمد زكريا الشلق وصدرت كتابا عن سلسلة مصر النهضة بدار الكتب.
ولعل الجميع قد صادف يوماً تعبير الماسونية في حياته مذكوراً بالسب والاتهام وملحقا بالطعن والرجم، وبينما يظل تعريف الماسونية غامضاً عند الكثيرين فإنهم يحتفظون بصورة نمطية عنها شديدة السوء والسواد، وبعيدا عن أصول لفظ الماسونية والتي تعني «البناء الحر» ومن ثم فالماسونيون هم البناءون الأحرار، والماسونية تنظيم رغم علانية وجوده في بعض الدول فإنه تنظيم سري عالمي له طقوسه وقواعده الخفية وتركيبته صارمة وهياكله التنظيمية شديدة السرية والتعقيد وهو تنظيم متهم بأنه يدير العالم عبر محافله السرية التي تضم قيادات وشخصيات من جميع بلاد الدنيا تحت شعارات أخلاقية، لكن السؤال الآن: هل الماسونية كانت قريبة جدا من مصر؟
العجيب أن دراسة وائل إبراهيم الدسوقي تقول إنها ليست قريبة من مصر فقط بل لعلها نشأت في مصر أصلاً!
فقد رأي بعض المؤرخين أن الماسونية من حيث مبادئها وتعاليمها مصرية، وبعبارة أخري إن التعاليم الماسونية كانت موجودة في مصر، وتعمل علي أسلوب قريب من أسلوب الماسونية، وبنظم تقترب كثيراً من نظم الماسونية، الأمر الذي حمل بعضهم إلي القول بأن الجمعية الماسونية فرع من الكهانة المصرية، أو أنها ظهرت في العصر المسيحي أو بعد الفتح الإسلامي لمصر، واستدلوا علي صدق دعواهم بأدلة كثيرة، لكن لم يستطع أحد منهم إثبات شيء مؤكد. لكن تسرد الدراسة أمثلة تستحق الانتباه اللافت منها حكاية لوحة «فانوس»، وهي اللوحة الجدارية المعلقة علي جدران كنيسة الأنبا «ريوس» ببطريركية الأقباط الأرثوذكس بالعباسية وهي لوحة رسمها فنان مصري مسيحي وهو «إيزاك فانوس»، واللوحة ملونة (متر وعشرون سم في أربعين سم) وكتب تحتها بالقبطية «الأب باخوم أبوالمديرية، واللوحة تمثل الأب باخوم (292م ــ 347م) يمسك بيساره لفافة يمكن التخمين بأنها تحمل كلمات من الكتاب المقدس، وفي اليد اليمني أمسك بالزاوية والفرجار، ولذلك فهي تثير الكثير من التساؤلات التي تحتمل العديد من الإجابات عنها، فمن المعلوم أن الزاوية والفرجار لم يمثلا يوماً رموزاً مسيحية، ولا تعطيهما المسيحية أي قداسة، فلماذا يصور الأب باخوم بالرموز الماسونية؟ ولأول وهلة يمكن أن نحكم علي الأب باخوم بالماسونية، وبالتالي ندلل بذلك علي وجود الماسونية في مصر في العصر البيزنطي، ومما يدعم ذلك أن الأب كيرلس ـ بطريرك الإسكندرية في الفترة      (384م ــ 412م) ـ مُصوَّر في كنيسة العذراء ـ إحدي الكنائس التي تخدم الأرثوذكس المصريين في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية ـ وهو يتكئ علي عامود قصير من الطراز الروماني، وهو تقليد غير متبع في تصوير القديسين بالفن المسيحي، لكنه متبع في تصوير الأساتذة العظام في الماسونية، فالعامود رمز مهم من رموز الماسونية. والملاحظ هنا أن القاسم المشترك بين اللوحتين هو من رسمهما وهو «إيزاك فانوس»، مما يجعلنا نرجح أن «فانوس» ماسوني أخذته الحماسة الماسونية حتي صور الأب باخوم والأب كيرلس بالرموز الماسونية.
إذا كانت هذه القصة شدت انتباهك فإليك أخري، فيذكر المؤرخون أن (ابن طولون) حين شرع في بناء الجامع كلف مهندسا مسيحيا ماسونيا ببنائه فجاء معمار الجامع أقرب إلي الهندسة الماسونية ناطقا برموزها وشعاراتها كما يذهب عدد من المؤرخين وينفي آخرون.
لكن متي نشأت المحافل الماسونية في مصر؟
يقول وائل الدسوقي إن ترجيحات كثيرة تقول إن المحافل بدأت فعليا مع الحملة الفرنسية إلي مصر وتأسس معها محفل فرنسي للماسونية وهو ما صبغ نشأة الماسونية كلها بمحافلها بالطابع الأجنبي داخل القاهرة والإسكندرية وعواصم الأقاليم المصرية كذلك سواء في طنطا أو المنصورة أو الزقازيق، وضمن أجانب إلي جانب مصريين كثيرين من رموز المجتمعات ووجهاء البلد وأعيانها وسياسييها ومثقفيها بل وشيوخها ولكن عمليا في أكتوبر 1876 التأم المحفل المصري الأكبر والأشمل وسمي محفل الشرق الوطني المصري الأعظم وكرس بحضور الموظفين والمندوبين من قبل المحافل العظمي والأجنبية، والتي بلغ عددها حوالي ثمانين محفلاً في مصر كانت تحت رعاية رسمية من الدولة، ولم يزل مقر المحفل الأعظم في القاهرة حتي منعت الماسونية في مصر في عام 1964، وقرر المحفل الأكبر الوطني المصري انتخاب الخديو «توفيق باشا» أستاذاً أعظم له، فذهب وفد من الماسون لمقابلته وعرضوا عليه الرئاسة قائلين: «إنه إذا لم يشد أزرهم آل أمر الماسونية الوطنية إلي الاضمحلال، فوافق الخديو علي طلبهم وقبل أن يكون رئيساً للمحافل المصرية ووعدهم بالمساندة والمعاضدة، كما اعتذر عن عدم الحضور في الاجتماعات لدواع مختلفة، وكلف ناظره للحقانية «حسين فخري باشا» لينوب عنه في الرئاسة. وفي عام 1890 طلب الخديو توفيق إعفاءه من الرئاسة العملية في المحفل الأكبر الوطني المصري ليتولاها غيره من أبناء الشعب تشجيعاً لهم، وعقد أعضاء المحفل الأكبر اجتماعاً في 9 يناير سنة 1890، وانتخبوا رئيساً جديداً هو «إدريس بك راغب»؟
ومع ظهور هذا الاسم تحفر الماسونية طريقا جديدا نشيطا وهائلا لها في مصر، وإدريس باشا راغب هو «ابن إسماعيل باشا راغب، كان في عهد سعيد باشا هو القائم بأمور البلاد فصار ناظراً علي الجهادية والخارجية والخزانة،، وفي عصر إسماعيل تقلد إسماعيل راغب منصب باشمعاون رئاسة الوزراء ثم أصيب بشلل نصفي وتقاعد بعد غضب الخديو عليه»، وبدأ إدريس راغب عمله صحفيا يراسل جريدة «المقتطف» بمقالات رياضية وعلمية، ثم انضم إلي المحفل الماسوني وحصل علي درجة أستاذ معلم في محفل مصر ثم تولي رئاسة المحفل الأكبر الوطني المصري. وكان ساعتها مديراً (محافظا) للقليوبية، وأنشأ خلال إقامته في عاصمتها بنها محفلاً ماسونياً يحمل اسمه، ونمت الماسونية في عهد رئاسته لها، وكثرت محافلها حتي صار عددها أربعة وخمسين محفلاً، منها محفلان تأسسا علي اسمه، وهما محفل (إدريس رقم 43)، ومحفل (راغب رقم 51)، وكان تولي «إدريس راغب» لمنصبه يمثل دفعة قوية للماسونية في مصر، فذلك الثري البارز والماسوني المتحمس لماسونيته كرس كل طاقاته وأمواله لصعود الماسونية المصرية، وأصبح يسيطر بحرص علي طرق عمل المحافل، وعلاقتهم بالمحافل الأخري، وبصفة خاصة الإنجليزية منها لمدة خمس وعشرين سنة، وكان من أهم مصادر التمويل لدي الماسونية في مصر، إلا أنه عندما هبطت ثروته التي أنفقها كلها علي المشروعات الماسونية ضعفت سطوته مما جرأ بعض تابعيه في المحافل لعمل بعض المخالفات. (يعرف كثيرون راغب باشا بصفة واحدة هو أنه مؤسس النادي الأهلي عام 1907مع آخرين).
وتطرح دراسة وائل إبراهيم الدسوقي بقوة علاقة المحفل الماسوني في مصر بالماسونية والماسونيين في أمريكا وهو نفس ما يؤكده الروائي الأشهر دان براون ـ مؤلف شفرة دافنشي ـ في روايته الأحدث «الرمز المفقود» الذي يركز علي الماسونية في واشنطن شارحا ارتباطا مذهلا بينها وبين مصر وماسون ورموز مصر حتي تكاد لا تصدق أن هذه العلاقة الوثيقة اللصيقة تجري في خفاء أو بالأحري في إخفاء عن الوعي المصري، ولعل كتاب «الماسونية والماسون» يعود إلي أصول هذه العلاقة منذ أن زار 450 من الماسون الأمريكيين مصر في 1895.
ثم تظهر الأسماء التي تثير الأسئلة والألغاز في تاريخ المحافل الماسونية في مصر ويسرد بعضها الباحث وائل الدسوقي و كان أبرزها «جمال الدين الأفغاني ـ محمد عبده ـ محمد فريد ـ إبراهيم ناصف الورداني ـ سعد زغلول ـ عبدالله النديم ـ الخديو توفيق ـ الأمير عبدالحليم ـ الأمير عمر طوسون ـ الأمير محمد علي ـ سيد قطب ـ أحمد ماهر باشا ـ محمود فهمي النقراشي ـ مصطفي السباعي ـ عبدالخالق ثروت ـ فؤاد أباظة ـ خليل مطران ـ إسماعيل صبري ـ حفني ناصف ـ حسين شفيق المصري»، ومن الفنانين: «يوسف وهبي ـ كمال الشناوي ـ محسن سرحان ـ محمود المليجي ـ زكي طليمات ـ أحمد مظهر»، وغيرهم من زعماء ووجهاء المجتمع المصري الذين كان لهم دور في نهضة مصر السياسية والاقتصادية والفكرية.
لكن هل معني ذلك أنهم جزء من مؤامرة مثلا أو خطة سرية خفية؟
يجيب باحثنا أن الانتماء إلي الماسونية في مصر كان عند البعض وسيلة للوصول إلي هدف بعينه، ويدل علي ذلك اعتراف «الأفغاني» أنه لم يدخل الماسونية إلا لهدف في نفسه وأنه خدع فيها وفي مبادئها. وهكذا، لم يكتف بنفض يده من الماسونية بعد طرده منها، بل فضحها وكشف عوراتها موجهاً إليها ولمبادئها ومزاعمها الانتقادات العنيفة، كما أعلن عن مقصده من دخول الماسونية بقوله: «إن أول ما شوقني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير: حرية إخاء ومساواة، وأن غرضها منفعة الناس ودك صروح الظلم وتشييد معالم العدل المطلق، هذا ما رضيته في الماسونية، ولكن وجدت جراثيم الأثرة والأنانية وحب الرئاسة والعمل بمقتضي الأهواء». ثم كان لعبدالله النديم موقف غاية في الأهمية ضد بعض الماسون الشوام، حين شكك في مصداقية مبادئ الماسونية لديهم، وعدم صدق انتمائهم للماسونية وإيمانهم بمبادئها أثناء مهاجمته لأصحاب جريدة المقطم الماسونيين، وكان انتماء زعيم وطني مثل «محمد فريد» إلي الماسونية وسط اعتراضات الكثيرين، مما كان له أكبر الأثر في ارتفاع شأن الماسونية بمصر، ومن الممكن أن يكون انضمام «فريد» إلي الماسونية تقليدا وليس اقتناعا بمبادئها، وربما كانت محاولة للتقرب من النظام الحاكم في تركيا ـ آنذاك ـ فقد كانت الماسونية تهيمن عليه، ومحاولة منه للاستفادة من التجربة التركية اعتقادا منه أنها ستنجح في مصر، وقد أصبح «فريد» أحد الأعضاء الماسون العالميين. ولا يوجد مصدر من المصادر يذكر لنا عملا واحدا قدمه «فريد» للماسونية، إلا أن انضمام «محمد فريد» إلي الماسونية. ويبدو أنه لنفس السبب الذي كان وراء انضمام «سعد زغلول» إلي الماسونية، لأنه يعرف مدي قوتها ورغبته في معرفة كل ما يدور بمصر من خلال الأعضاء الماسون والتقرب منهم كي يحقق أهدافه السياسية، فوجهاء المجتمع ـ في هذا الوقت ـ كان معظمهم من الماسون، وكان أولهم «بطرس غالي»، ومن الجائز أن سعد قد دخلها مثل «النديم» أو «محمد عبده كي يكون بجوار «الأفغاني» الذي اختار الماسونية كمكان مأمون للاجتماعات التي لا رقيب عليها.

 ومن الواضح أن خدمات سعد زغلول للماسونية لم تنته، فقد منح في العشرينيات لقب الأستاذ الأعظم الفخري للمحفل الأكبر الوطني المصري، مما جرأ المحفل الأكبر علي أن يكتب ذلك بصورة رسمية علي غلاف جريدة «حيرام» التي كانت تصدر في الإسكندرية، فقد كتب عليها بجوار اسم الجريدة «حرية - إخاء - مساواة، الأستاذ الأعظم الفخري وصاحب الدولة سعد زغلول باشا»، ثم يضرب وائل الدسوقي في العميق الغميق ويقول (ويبدو أن الماسونية امتدت إلي بعض الأعضاء من تنظيم «الإخوان المسلمين» مثل «سيد قطب» الذي كان يكتب مقالاته في «التاج المصري» وهي لسان حال المحفل الأكبر الوطني المصري، وإن لم يصرح أي من مصادر الماسونية أنه كان ماسونيا، لكن الصحف الماسونية لم تكن لتسمح لأحد من غير الأعضاء في الماسونية بالكتابة فيها مهما كانت صفته أو منصبه ولو صدق انضمام «سيد قطب» إلي الماسونية فسوف يكون هناك علامة استفهام لا تجد من يجيب عنها، فما مدي انتمائه إلي الماسونية؟ وما الغرض من انضمامه؟ ولأي مدي كان اقتناعه بمبادئها؟. لكن قطب كان معروفا بتقلباته الفكرية قبل الرسو علي بر الإخوان فقد انضم إلي حزب الوفد ثم انفصل عنه، وانضم إلي حزب السعديين ونشر مثلا في «الأهرام» دعوته للعري التام، وأن يعيش الناس عرايا، كما ولدتهم أمهاتهم، ومن المعروف أن دعوة العري التام قد دعا إليها الكثير من رؤساء المحافل الماسونية الغربية، وكتب الشيخ «محمد الغزالي» في كتابه «من ملامح الحق»، (إنه بعد مقتل «البنا» وضعت الماسونية زعماء لحزب الإخوان المسلمين، وقالت لهم ادخلوا فيهم لتفسدوهم)، وأضاف الغزالي: «... فلم يشعر أحد بفراغ الميدان من الرجالات المقتدرة في الصف الأول من جماعة الإخوان المسلمين إلا يوم قُتل حسن البنا في الأربعين من عمره، لقد بدا الأقزام علي حقيقتهم بعد أن ولي الرجل الذي طالما سد عجزهم، وكان في الصفوف التالية من يصلحون بلا ريب لقيادة الجماعة اليتيمة، ولكن المتحاقدين الضعاف من أعضاء مكتب الإرشاد حلوا الأزمة، أو حلت بأسمائهم الأزمة بأن استقدمت الجماعة رجلاً غريباً عنها ليتولي قيادتها، وأكاد أوقن بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية أرادت تدويخ النشاط الإسلامي الوليد فتسللت من خلال الثغرات المفتوحة في كيان جماعة هذه حالها وصنعت ما صنعت. ولقد سمعنا الكثير مما قيل عن انتساب عدد من الماسون بينهم الأستاذ حسن الهضيبي نفسه لجماعة الإخوان ولكنني لا أعرف بالضبط، هل استطاعت هذه الهيئات الكافرة بالإسلام أن تخنق جماعة كبيرة علي النحو الذي فعلته، وربما كشف المستقبل أسرار هذه المأساة.)؟ (ملامح الحق صفحة 263 كما ثبت المؤلف في المراجع).
بعد يوليو 1952 بدأ الاختفاء التدريجي للمحافل الماسونية يتزايد بعد أن كان تدريجياً منذ عام النكبة في 1948، فانسحب الكثير من الأعضاء الماسون، خاصة من المصريين والبريطانيين والأجانب أصحاب الوظائف المهمة في الجيش البريطاني، كما انسحب بعض المسئولين في الحكومة المصرية، وآثر الأجانب مغادرة البلاد وممارسة النشاط الماسوني في بلادهم، كما استمرت الحال هكذا حتي أزمة السويس 1956، عندئذ بدأت المحافل الماسونية الأجنبية في التوقف عن النشاط في مصر ونقل نشاطها إلي خارج مصر أو إنهاء النشاط بصورة نهائية، إلا أن المحفل الأكبر المصري كان لايزال عاملاً ويريد الاستمرار، وبالتأكيد كان يحاول تأمين نشاطه بأي وسيلة حتي وإن كان ذلك بالتنازل عن شخصيته التنظيمية، وتسجيل نفسه كجمعية تابعة للدولة، وكان يأمل أن تتركه الدولة ومحافله ليمارس النشاط كعهد الماسونية بالدولة منذ بداية الماسونية نشاطها في مصر في القرن التاسع عشر. وعندما وجد المحفل الأكبر الوطني المصري أن المناخ مناسب له في مصر تقدم بطلب «رقم 1425» إلي وزارة الشئون الاجتماعية حسب الأصول الإدارية المتبعة كي يسجل عشيرتهم في وزارة الشئون الاجتماعية المصرية، فطلب منهم المسئولون تطبيق قانون الجمعيات عليهم. وعند ذلك رفضت إدارة المحفل الأعظم تقديم سجلات بأعمالها إلي وزارة الشئون الاجتماعية لأنه يتعارض مع السرية التامة التي هي من سمات الماسونية منذ إنشائها، بحيث لا تسمح القوانين الماسونية حتي للدولة التي تعيش في كنفها، أو لأعضائها العاديين بالاطلاع علي أعمالها ونشاطها وطقوسها، وعند ذلك قررت الحكومة المصرية إلغاء الجمعيات الماسونية في مصر في 16 أبريل 1964 وعلي رأسها المحفل الأعظم.
علي رغم كل هذه الحقائق التي تلطمك في هذا الكتاب، فإنني توقفت عند اسم واحد فقط من الماسونيين هو محمد فؤاد عبدالباقي!
واحترت هل هو المؤلف العظيم للكتاب والعمل الإسلامي الأعظم (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)؟
يارب ما يكون هو نفسه!!


.....................................................................................................
نقــــلاً عن جريدة الدســـــــــتور
المحفل الماسونى الذى حكم مصر
للاســتاذ / إبراهـــيم عيســــــــى